الأستاذة لؤلؤة للفلسفة الأستاذة لؤلؤة للفلسفة
جديد الأخبار
جاري التحميل ...

آخر الأخبار

جديد الأخبار
جاري التحميل ...
جاري التحميل ...

مقالة: العدالة بين المساواة والتفاوت

هل تتأسس العدالة على المساواة أم على التفاوت؟

أولا: طرح المشكلة

إن الهدف من الاجتماع الإنساني المدني هو ضمان الإنسان لحقوقه وعيشه الكريم، والغاية القصوى من هذا الاجتماعي هي تحقيق العدالة الاجتماعية التي تعتبر قيمة أخلاقية ومطلبا اجتماعيا وإرساؤها يعبر عن تطور حضاري للشعوب والأمم، وتعرف بأنها الاعتدال والاستقامة في القول والفعل والميل إلى الحق والتوسط بين الافراط والتفريط في الحقوق والواجبات، وحول المبدأ الذي تتأسس عليه العدالة الاجتماعية، اختلف الكثير من الفلاسفة والمفكرين ورجال القانون، بين من يرى أن العدالة تقوم على مبدأ المساواة بين جميع الناس في الحقوق والواجبات باعتبار المساواة حق طبيعي، وبين من يقر بضرورة قيام العدالة على مبدأ التفاوت بين الناس في حقوقهم وواجباتهم من منطلق أن الناس متفاوتون من حيث قدراتهم واستعداداتهم ومهاراتهم. وهذا الجدل القائم يدفعنا للتساؤل: هل تتأسس العدالة على المساواة أم على التفاوت؟ أو بعبارة أخرى: هل في مراعاة مبدأ المساواة في الحقوق و والواجبات تجسيد للعدالة الاجتماعية؟

ثانيا: محاولة حل المشكلة

الأطروحة الأولى:

يرى أنصار الأطروحة الأولى ويمثلهم: فلاسفة القانون الطبيعي، فلاسفة العقد الإجتماعي، ودعاة المذهب الاشتراكي أن العدالة الاجتماعية تتأسس على مبدأ المساواة بين الجميع في نفس الحقوق ونفس الواجبات، فالعدالة في نظر هؤلاء الفلاسفة تقوم على مبدأ يضمن للجميع التمتع بنفس الحقوق ويلزم الجميع بتأدية نفس الواجبات دون أي تمييز أو تفاوت بينهم قد يكون سببا في إختلال توازن المجتمع وزعزعة استقراره، ولقد برر هؤلاء رأيهم بجملة من الحجج التي تؤكد على ضرورة و حتمية جعل مبدأ المساواة الأساس التي تستند إليه العدالة، حيث نجد فلاسفة القانون الطبيعي الذين اعتبروا أن تجسيد العدالة في المجتمعات يكون انطلاقا من تكريس مبدأ المساواة بين الجميع في نيل نفس الحقوق وتأدية نفس الواجبات ودليلهم في ذلك أن الناس كانوا متساوين في الحقوق الطبيعية التي على رأسها المساواة، وأساس هذه المساواة التي يجسدها القانون الطبيعي هو أن الناس ولدوا في الأساس متساويين في قدراتهم واستعداداتهم سواء العقلية أو الجسدية وحتى ولو وجدت بينهم فروقات فهي بسيطة لا يجب أخذها محمل الجد في تقرير مبدأ العدالة، كما أن ما يبرر هذه المساواة هو أن للجميع نفس القدرة على التعلم حيث يقول المفكر الروماني شيشيرون: (فلنا جميعا عقل، ولنا جميعا حواس، وان اختلفنا في العلم فنحن متساوون في القدرة على التعلم)، ومعنى ذلك أنه لو كانت ميولاتنا مختلفة عن بعضنا البعض فإن لنا جميعا نفس القدرة على اكتساب أي مهارة أو علم كان. وفي هذا السياق نذكر قول الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي يدعم فكرة أن لنا جميعا في البداية نفس الملكات والقدرات العقلية حيث يقول: (العقل أعدل قسمة "توزعا" بين البشر)، ويذهب فلاسفة العقد الاجتماعي ويمثلهم كل من: (جون جاك روسو، جون لوك، توماس هوبز) إلى اعتبار أنه لا سبيل لإحلال العدالة في المجتمعات إلا من خلال اعتماد مبدأ المسواة ركيزة ومنطلقا لهذه العدالة، فهم يرون أن الانسان مر بمرحلتين: تمثلت في المرحلة الطبيعية التي سادها القانون الطبيعي، انتقالا إلى المرحلة المدنية السياسية التي سادها القانون الوضعي (المدني)، ففي المجتمع الطبيعي كان الجميع أحرارا ومتساوين ولما حاولوا التعاقد والانتقال إلى المرحلة السياسية بغرض تحقيق حياة أفضل تضمن لهم حماية حرياتهم، كان أساس هذا التعاقد قائما على شرط الأمن والمساواة، وبما أن الناس انتقلوا للمجتمع الطبيعي بضمان شرط المساواة فمن الظلم أن نسلبهم هذا الحق أو أن نخل بهذا الشرط، يقول الفيلسوف الانجليزي جون لوك: (إن كل شخص له حق كامل في الحرية وفي التمتع بجميع حقوق ومزايا قانون الطبيعة على قدم المساواة مع أي شخص آخر)، فجون لوك يذهب للرأي القائل أن الناس خلقوا بطريقة واحدة ومن نوع واحد وأن لهم جميعا نفس القدرات الطبيعية، وهو ما يحتم أن يكونوا متساوين أيضا فيما بينهم في الحقوق والواجبات، كما اعتبر الفيلسوف الفرنسي جون جاك روسو أن المساواة من صنع الطبيعة والتفاوت من صنع البشر فأفراد المجتمع الطبيعي لم يكونوا متفاوتين اجتماعياً، وكذلك الأسر أو العائلات، لعدم وجود موضوع يتفاوتون فيه. وكذلك نجد دعاة المذهب الاشتراكي وعلى رأسهم: (كارل ماركس، انجلز) ينطلقون من الدعوة إلى المساواة في تأسيس العدالة بين الناس، حيث تنطلق الاشتراكية في التأسيس لهذه المساواة الضامنة للعدالة من خلال محاولة التخلص من الطبقية الاجتماعية في المجال الاقتصادي خاصة، بإقرار مبدأ الملكية العامة (الجماعية) لوسائل الانتاج باعتبارها حقا للجميع، كما يتجسد ذلك في الجانب السياسي بتكريس الديمقراطية الاجتماعية التي جاءت حاملة لشعار المساواة بين الجميع في الاختيار والممارسة السياسية والغاء كل الفروقات التي سبق وكرستها الأنظمة الرأسمالية. إضافة إلى هذه التيارات الفلسفية نجد العديد من الثورات التنويرية التي قامت بهدف إقامة العدالة على مبدأ يضمن للجميع نفس الحقوق ونفس الواجبات، فقامت هذه الثورات بالكفاح ضد كل تمييز أو تفاوت ودعت إلى تكريس المساواة، ونذكر من بين هذه الثورات ما تبناه "مارتن لوثر كينغ" من دعوة للمساواة بين البيض والسود، ودعوات أخرى للمساواة والغاء الفوارق بين الناس  تبناها جملة من الحكماء أمثال الحكيم الصيني كونفيشيوس، والحكيم الهندي المهاتما غاندي. كما تضمن الاعلان العالمي لحقوق الانسان دعوات صريحة للمساواة بين الناس وعدم التمييز بينهم لا من حيث الجنس أو العرق أو المعتقد، وهو ما تضمنته العديد من مواده نذكر منها ما جاء في المادة رقم 02: "لكلِّ إنسان حقُّ التمتُّع بجميع الحقوق والحرِّيات المذكورة في هذا الإعلان، دونما تمييز من أيِّ نوع، ولا سيما التمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدِّين..."

نقد الأطروحة 1:

بالرغم مما قدمه هؤلاء الفلاسفة والمفكرون إلا أن أطروحتهم لا تجسد جوهر العدالة لأن الدعوة إلى المساواة المطلقة بين الأفراد في الحقوق والواجبات تكريس للظلم بعينه، فمن المعروف أن الناس ليسوا متساوين في القدرات والمهارات والاستعدادات، والفروقات بينهم لا يمكن إلغاؤها أو إنكارها بأي شكل من الأشكال وبالتالي فإنه من غير العدل أن نساوي بين أفراد تتفاوت قدراتهم ومؤهلاتهم في شتى المجالات، لأن التفاوت بين البشر أمر طبيعي لا يمكن أنكاره أو تجاهله، وكل محاولة للمساواة بين أفراد غير متساوين هي قتل لكل رغبة في الابداع أو النجاح وهي بذلك سبب وجيه للتمرد على القانون ونشر الفوضى الاجتماعية.

الأطروحة الثانية:

يرى أنصار الاتجاه الثاني وهم جملة من الفلاسفة أمثال: (أفلاطون، أرسطو، هيغل، نيتشه، إضافة إلى دعاة المذهب الرأسمالي) أن التفاوت بين أفراد المجتمع في الحقوق والواجبات هو أساس قيام العدالة الاجتماعية، بحكم قانون الطبيعة البشرية المتباينة التي جعلت التفاوت بين الأفراد في الحقوق والواجبات أمرا مشروعا، ولقد دعم هذا الاتجاه بعض النظريات الدينية والفلسفية وذلك من خلال الاقرار بوجود فوارق بين الأفراد في القدرات والمواهب والاستعدادات، ومراعاة التفاوت بينهم يدفع بهم إلى التنافس كما أنه يشجع الإبداع والمبادرة الفردية. ففي الفلسفة الكلاسيكية نجد أهم من دعا إلى التفاوت بين البشر كمبدأ للمساواة الفيلسوفان اليونانيان (أفلاطون وتلميذه أرسطو)، فنجد أفلاطون قسم المجتمع إلى ثلاث طبقات: الحكام، الجنود والعبيد، وهذا التقسيم يقابله تقسيمه للنفس الانسانية منطلقا في ذلك في اقراره للتفاوت الطبيعي بين الأفراد في القدرات المواهب والمعرفة والأخلاق، وبذلك اعتبر التفاوت في الحقوق والواجبات هو الضامن للعدالة الاجتماعية، كما دعا إلى ضرورة احترام طبقات المجتمع لهذا التفاوت بينها فلا يجوز لأفراد كل طبقة أن ينتقلوا إلى طبقة أخرى، فنجده أعطى للحكام حقوقا أكثر وواجبات أقل وتقل الحقوق وتزداد الواجبات عند الانتقال من طبقة أعلى لطبقة أسفل، وعلى الدولة أن تراعي هذا التباين في توزيع الحقوق والواجبات حتى يوضع كل شخص في مكانه اللائق. أما أرسطو فقد أقام العدالة الاجتماعية على مبدأي الكفاءة والاستحقاق، إذ يرى أنه من غير العدل أن نساوي بين أفراد غير متساوين على اعتبار أن الأفراد ولدوا مختلفين ومتفاوتين من حيث قدراتهم ومهاراتهم حيث يقول: "أسوء شكل لعدم المساواة هو ان نحاول المساواة بين أشياء غير متساوية"، وفي الفلسفة الحديثة أهم من تبنى الدعوة إلى اللامساواة بين البشر نجد الفيلسوفان الألمانيان (هيغل، نيتشه) حيث يؤكد هؤلاء على ضرورة احترام مبدأ التفاوت بين الأفراد والشعوب للتأسيس لعدالة حقيقة، حيث اعتبر هيغل أن التفاوت لا يكون على مستوى الأفراد فحسب بل على مستوى الأمم والشعوب، من منطلق أن الأمة القوية والتي تتجسد فيها الروح المطلقة وتصل إلى إثبات ذاتها وكيانها الكامل بين الأمم هي التي يحق لها أن تملك كل الحقوقو و ينبغي لها أن تحكم باقي الأمم وما على بقية الشعوب إلا الخضوع، ويقر نيتشه أيضا على كون التفاوت في الحقوق والواجبات أساس قيام العدالة في كل مجتمع، فنجده قسم المجتمع إلى طبقة الأسياد وطبقة العبيد، ومن الطبيعي أن يكون للأسياد حقوق أكثر من العبيد، فلهم الحق في الملكية والحكم بينما على العبيد واجب الطاعة والاحترام وخدمة الأسياد حيث يقول: "التفاوت بين الناس لا يمكن إنكاره". إضافة إلى هؤلاء نجد دعاة المذهب الرأسمالي الذي قسم المجتمع إلى طبقة برجوازية مالكة لوسائل الإنتاج وطبقة البروليتاريا وهي الطبقة العاملة أو الكادحة، حيث دعت الرأسمالية إلى النزعة الفردية من خلال الإقرار بمبدأ الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي كانت حكرا على الطبقة البرجوازية، وهو ما ساهم في تكريس التفاوت بين الأفراد في الحقوق والواجبات، على اعتبار أن الطبيعة البشرية تجسد التفاوت بين الأفراد في مواهبهم وقدراتهم وهذا يبرر تفاوتهم في الحقوق والواجبات. وكذا نجد العديد من علماء الإنسان والطبيعة من يقرون بوجود فروقات بين الأفراد في القدرات سواء العقلية أو الجسدية أو النفسية، وهو ما يجعل قدرتهم على العمل وتأدية الواجب تتباين وتختلف باختلاف قدرتهم، وهو ما يبرر عدم المساواة بينهم في الحقوق والواجبات لأن التفاوت والاختلاف هو قانون طبيعي، حيث يقول الطبيب الفرنسي ألكسيس كاريل: "بدلا من أن نحاول تحقيق المساواة بين اللامساواة العضوية والعقلية ... يجب أن نوسع دائرة هذه الاختلافات وننشئ رجالا عظماء"

نقد الأطروحة2:

بالرغم مما قدمه هؤلاء الأنصار إلا أن العدالة القائمة على التفاوت والتي نادوا بها هي عدالة ضيقة تخدم الطبقة العليا من المجتمع وتغض الطرف عن بقية شرائح المجتمع، لأن القول بالتفاوت الطبيعي ماهو إلا ذريعة لممارسة استغلال الإنسان لأخيه الإنسان وتكريس الظلم تحت شعار أن هناك تفاوتا تفرضه الطبيعة، وهذا المبدأ من شأنه أن يكون سببا في رفض قوانين المجتمع فإذا أحس الأفراد بالظلم وعدم المساواة مع غيرهم تمردوا على القوانين.

التركيب:

يمكن الجمع والتوفيق بين الأطروحتين بالقول أن العدالة الاجتماعية الحقيقية هي التي تراعي مبدأ التفاوت بين الأفراد من جهة وتعمل على المساواة بينهم من جهة أخرى فتزاوج بين المبدأ والتطبيق في تقسيم الحقوق والواجبات، وبالتالي فإن العدالة تتحقق من خلال المساواة بين الأفراد المتساوين في قدراتهم واستعداداتهم، ومن خلال التفاوت بين الأفراد غير المتساوين وذلك بمراعاة ما بينهم من فوارق واختلافات دون إهمال مبدأ الكفاءة والاستحقاق.

ثالثا: حل المشكلة

وفي الأخير نستنتج مما سبق أن العدالة باعتبارها فضيلة في حياة الأفراد فإنها تعبر في المقابل عن توازن المجتمع في الحقوق والواجبات وفق ما تقتضيه الطبيعة الإنسانية من مراعاة التفاوت من جهة والمساواة من جهة أخرى، وعليه فإن قوام العدالة الحقيقية لا ترسمه المساواة وحدها فهي قد تحمل الظلم من خلال المساواة بين أفراد متفاوتين، كما لا يحدده التفاوت الذي قد يميز بين أفراد متساوين، وبالتالي فإن السبيل إلى تجسيد العدالة الإجتماعية يكون بالمزاوجة بين المساواة والتفاوت من خلال مراعاة العديد من العوامل وجوانب الشخصية مثل: الكفاءة، الاستحقاق، الظروف .. الخ

 


 

عن الكاتب

الأستاذة لؤلؤة - أستاذة فلسفة. - خريجة المدرسة العليا للأساتذة (بوزريعة) تخصص: فلسفة - كاتبة

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

الأستاذة لؤلؤة للفلسفة